ترامب وأوكرانيا- المصالح الأميركية تحدد مسار الحرب.

المؤلف: جيرار ديب09.26.2025
ترامب وأوكرانيا- المصالح الأميركية تحدد مسار الحرب.

في حوار مطوّل أجرته معه صحيفة "لو بوان" الفرنسية، صرح الفيلسوف والخبير السياسي الأميركي البارز، فرانسيس فوكوياما، بأن الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، قد يسعى إلى تسوية الأزمة الأوكرانية على حساب مصالح كييف.

وأوضح فوكوياما أن الرئيس المنتخب ترامب لا يكنّ احترامًا كافيًا للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ويبدو غير مكترث بالقضية الأوكرانية برمتها. وتأتي هذه التصريحات في أعقاب تأكيدات سابقة لترامب، أدلى بها في تصريحات صحفية، مفادها أنه يجب على زيلينسكي أن يكون مستعدًا لإبرام اتفاق ينهي الصراع الدائر في أوكرانيا. علاوةً على ذلك، انتقد ترامب سماح كييف بضرب العمق الروسي بصواريخ أميركية متطورة بعيدة المدى، معتبرًا ذلك قرارًا خاطئًا "يستدعي إعادة النظر فيه".

الجدير بالذكر أن فوكوياما قد وقع في خطأ فادح قبل عقدين من الزمن، عندما انتابته نشوة عارمة عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، فأصدر كتابه الشهير "نهاية التاريخ وانتصار الرجل الأخير"، الذي تنبأ فيه بمستقبل الشعوب ما بعد الشيوعية، زاعمًا أن العالم سيشهد انتصارًا حاسمًا للنموذج الليبرالي.

إلا أنه مع الصعود المتزايد للصين وروسيا، وصدور دعوة مشتركة من الزعيمين الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جين بينغ لبناء نظام عالمي متعدد الأقطاب، شهدت رؤى فوكوياما تحولًا ملحوظًا، وأصبحت تحليلاته أكثر اتزانًا وواقعية.

وفي هذا السياق، بادر فوكوياما إلى تأليف كتاب آخر في عام 2015 بعنوان "الإسلام والحداثة والربيع العربي"، حيث أعرب فيه عن تراجعه عن بعض أفكاره السابقة المتطرفة، وانتقد بعض السياسات الأميركية في تعاطيها مع القضايا العالمية والعربية. والسؤال المطروح الآن: هل يقع فوكوياما في خطأ مماثل في قراءته لمصير الحرب الأوكرانية هذه المَرّة؟

إن ما تفوه به فوكوياما يستند إلى تصريحات متكررة أدلى بها الرئيس ترامب في مناسبات عديدة، وتعهد من خلالها بإنهاء الحرب في شرق أوروبا، مؤكدًا أن هذه الحرب لن تحقق مكاسب إستراتيجية للولايات المتحدة.

وتجدر الإشارة إلى أن ترامب قد عبّر في السابق عن إعجابه بالرئيس بوتين، وشهدت فترة ولايته الأولى تقاربًا ملحوظًا مع روسيا، على النقيض من سياسة الرئيس الحالي جو بايدن، الذي جعل من أولويات سياسته الخارجية احتواء النفوذ الروسي المتنامي عبر إدخالها في حرب استنزاف طويلة الأمد مع كييف.

ومع ذلك، يجب على المتابع ألا يثق تمامًا بتصريحات ترامب، ولا حتى بالمشاعر التي يبديها تجاه الآخرين، فهذا الرجل الذي ينحدر من عالم المال والأعمال متشبع بالفكر البراغماتي الذي يرى أنه لا توجد عداوة دائمة ولا صداقة مستمرة، وأن المصالح هي المحدد الوحيد للعلاقات.

وبناءً على ذلك، يُستنتج بأنه مهما ابتعد ترامب عن التيار السائد، فإنه لن يتمكن من جرّ بلاده إلى حالة عداء مع الغرب الأوروبي، سواء على صعيد تعليق عضوية بلاده في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، أو التخلي عن أوروبا وتركها تواجه روسيا بمفردها؛ لأن ذلك سيمنح موسكو تفوقًا مطلقًا في سوق الطاقة الأوروبية، وهو ما يتعارض مع طموحات ترامب وإدارته الجديدة.

وكشف تحليل أجرته وكالة "نوفوستي" الروسية لبيانات المكتب الإحصائي Eurostat أن الاتحاد الأوروبي يسعى جاهدًا لإيجاد مصادر جديدة للغاز، تحسبًا لاحتمال منع أوكرانيا من الاستمرار في لعب دور نقطة عبور للغاز الروسي إلى أوروبا، حيث من المقرر أن ينتهي الاتفاق الحالي بين البلدين بشأن نقل الغاز الروسي في نهاية العام 2024، أي في نهاية هذا الشهر.

وتزايدت التحليلات التي ترى أن جزءًا من خطة إسقاط النظام السوري يهدف إلى تسهيل نقل الغاز العربي عبر تركيا إلى أوروبا، ليصبح مصدرًا بديلًا للغاز الروسي. وهذا السيناريو ليس بعيدًا عن الواقع، خاصةً في ظل الاهتمام الأميركي – التركي بإنجاح مهمة الفصائل المعارضة التي تولت زمام الحكم في البلاد، وهو ما تجسد في الزيارات المكوكية التي قام بها القادة والمسؤولون الأميركيون والأتراك إلى دمشق، وإصدار قرارات تصبّ في مصلحة استقرار البلاد وإنعاشها من جديد.

إذ لا يمكن لأحد أن يتجاهل قرار المبعوثة الأميركية باربرا ليف، التي زارت دمشق مؤخرًا، بإلغاء مكافأة العشرة ملايين دولار التي كانت معروضة لمن يدلي بمعلومات مهمة عن أحمد الشرع.

إن مشروع استجرار الغاز الطبيعي العربي إلى أوروبا قد يستغرق سنوات عديدة، بينما حاجة الأوروبيين إلى الاستغناء عن الطاقة الروسية هي حاجة ملحة لا تحتمل التأخير. ولهذا السبب، بدأ سيناريو آخر في الظهور إلى العلن مع اقتراب تسلُّم ترامب الرئاسة في 20 يناير/ كانون الثاني القادم، ويتمثل في أسلوب الابتزاز الذي يتقنه الرئيس ترامب، والذي يتمثل في توجيه تهديدات إلى الاتحاد الأوروبي بفرض رسوم جمركية أميركية إضافية إذا لم يبرم الأوروبيون اتفاقًا لزيادة استيراد النفط والغاز الأميركيين.

ووفقًا لبيانات الحكومة الأميركية، يشتري الاتحاد الأوروبي بالفعل الحصة الأكبر من صادرات النفط والغاز الأميركية. إلا أن البيانات تؤكد أنه لا توجد حاليًا أي كميات إضافية من الطاقة المتاحة، ما لم تقم الحكومة الأميركية بزيادة إنتاجها، أو على الأقل إعادة توجيه الكميات من آسيا - المستهلك الكبير الآخر لمنتجات الطاقة الأميركية - نحو أوروبا.

هذه المعضلة الأميركية تستحق التوقف عندها، لكن حلها لن يكون بالأمر المستحيل، خاصةً بعد التصريح الذي أدلى به ترامب في 9 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، وذلك خلال مقابلة مع شبكة "CNBC" الأميركية، بأن إنتاج النفط سيكون من أولويات إدارته القادمة. وقال ترامب عندما سئل عن أولوياته خلال ولايته المقبلة: "سأركز على الحفر يا عزيزي… الحفر".

في قراءة متأنية لما قاله ترامب عن الحفر، يتضح مدى جديته في دعوة شركات الطاقة الأميركية لتكثيف عمليات الحفر، لأنها تمثل فرصة أميركا الحقيقية، قبل أن تتمكن القارة العجوز من إيجاد البدائل، وهي التي تشتري الغاز والنفط الأميركيين بخمسة أضعاف أسعار السوق العالمية، كما صرّح ذات مرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، معاتبًا الرئيس بايدن على هذا الأمر.

أمام حاجة الأميركيين إلى تحسين وضع ميزانيتهم العامة، يصبح من الضروري التركيز على إيجاد مصادر دخل جديدة، إما عن طريق زيادة الرسوم الجمركية على السلع الأجنبية، وهو ما قد يشكل أزمة لحليف أميركا الرئيسي وهو الأوروبي، أو أن يلجأ الأخير إلى زيادة استيراده للطاقة الأميركية.

لهذا السبب، ولأسباب أخرى، من المستبعد أن تتوقف الحرب في أوكرانيا رغم وعود ترامب، وذلك حتى لا يتم فتح المجال أمام منافسة الطاقة الروسية للطاقة الأميركية من جديد، وهو ما قد يدفع ترامب للمضي قدمًا في السياسة التي يتبعها بايدن تجاه روسيا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة